لؤي حمزة عباس ومدينة الصور

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
02/04/2011 06:00 AM
GMT



أفكر أنّ الزوال والاندثار المتسارعين، والمتجسّدين بأوضح، ولكن أعنف، صورة في ما تعانيه حياتنا العامة من تقلبات حادة تنتقل بها بسهولة فاجعة من الشيء إلى نقيضه الطارد، وفي تشكيل شوارع وطرقات ومعمار مدننا المتهالكة المهددة دوماً بالغبار والحرّ والجفاف والنسيان والفجاجة، وفي ما يعنيه الفقدان الفادح وغير المنقطع وغير المسوّغ في مصائر الأفراد، أفكر أنّ هذا كلّه - وليس فقط الجوهر الإنساني العام الذي يشترك فيه البشر بما هم كذلك بوصفهم بشراً فانين – يعمّق من إحساس العراقي، وكل من يعيش الشرط اللاإنساني نفسه، بالفناء والزوال. وهو إحساس يعيشه الجميع، فالمكان للجميع، يعانيه بعضهم ويشهد عليه بعض آخر، ويأتي الأديب المبدع ليجسّد (أم ليؤبّد: كما فعل العراقي مذ ابتكر الكتابة!) هذا الإحساس أدباً.

وهذا ما يفعله الكاتب لؤي حمزة عباس في روايته مدينة الصور (الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون ودار أزمنة، 2011). على غلاف الرواية صورة فوتوغرافية لطفلين ينظران إلى كاميرا: أصغرهما حافي القدمين يقف مبهوتاً، عيناه مفتوحتان على اتساعهما، ذراعاه لصق جسده، والثاني ينتعل نعالاً بلاستيكياً لا يقي من أي شيء، يقف متحدياً لكثرة ما تعود ربما على التقاط الصور وتجميعها. خلفهما مباشرة نصف دراجة هوائية، ونصف وجه راكب الدراجة، وخلفهم في عمق الصورة طفل يبدو متجهاً نحو الكاميرا، على الجهة اليسرى من الصورة (الجهة اليمنى لمشاهد الصورة والكاميرا: لأن الصور تكذب) صف بيوت، تظهر منه ثلاث بيوت متشابهة. إحدى حواف الصورة مثلومة، وتكسّرات تحف الثلم. تحت هذه الصورة صورتان أخريان لا يبين منهما سوى حوافهما. الصور الثلاث متراكبة على بعضها بعض مثل ورق لعب ملقى من غير ترتيب.

فوضى هذه الصور وتراكبها العشوائي هما جوهر الرواية: فوضى مصائر الناس، فهي كما الصور على غلاف الرواية ملقاة من دون حماية ولا تعهد مضمون في تاريخ مدينة، وتقلباتها المباغتة، وتقاطع هويات الشخصيات التي تمرّ بالمدينة. وهذا كله يجسده السرد بطريقة مناظرة. تُستهل الروايةُ بالعبارة الآتية: "شيء ما يتغير. شيء لا يكاد يُرى. لكنه يُحسُّ على الوجوه. بملامحها الموهنة. مثل أثر جرح قديم مندمل" (9). والرواية لا تفعل غير أن تضعنا في قلب هذا التغير، وترينا إياه، فتسرد لنا حكايات وجوه. لذلك هي تنكأ الجراح التي تريد أن تندمل.

المكان: المعقل. الأشخاص من كل حدب وصوب: عبد الحليم حافظ، عبد الكريم قاسم، الخميني، الإيطالية التي "هشمت زجاج أيام المعقل وهي تتهادى عارية على سلم الباخرة. تنزل من (فينيسيا) الراسية على رصيف الميناء. جسدها الأبيض الفتي ينوّر في صباح الأول من كانون الثاني 1961" (35)، والهندي كومار والذين يتسللون من حكاياته: راجيف غاندي وأمه، وزوجته الإيطالية، هرمان ملفل، والراوي وعائلته وأصدقاؤه وآخرون. الزمان: ذاكرة الراوي التي يختلط فيها الخيال بالواقع اختلاطهما في نفس "أم هلال" التي ليأسها من معرفة مصير ابنها المعتقل "كانت ترمي خيط أنينها أبعد مسافة ممكنة لعل هلال يتعثر به يوماً" (131). ولكل واحد من هؤلاء صورة، "لكل وجه صورة"، في دفتر صور الراوي الطفل، والمراهق اليافع، وفي دفتر المدينة الوهمي والواقعي الذي تقلّبُ لنا الروايةُ صفحاتِه. ولكل واحد منهم اسم، وهناك أسماء العائلة، والأصدقاء وحتى الكلب الصغير له اسم إلاّ الراوي، الذي يعرف الحكايات كلها، ويشارك في بعضها.

"لكل وجه صورة/ ولكل حكاية/ وكل حلم": ولكن الصور تكذب. هذه لازمة تتكرر في الرواية كثيراً، كما لو أنّها تشدّ بنيانها الفكري. إنّ الصور تكذب لأنّ للحدث الواحد قد تكون أكثر من حكاية: سعود الذي قتل ب"أول قذيفة تلقيها إيران على ميناء المعقل... يعود من موته في حكايات [أخيه] يوسف المتوالية ليُلقى عليه القبض في ليلة حالكة"، ميتة "تؤكدها الصورة... وأخرى تنفيها الحكاية" (66)؛ الصور تكذب لأنّه "لم تكن بين خالي وأنا أتصوره متمهلاً يمشي على الكورنيش وصورته المحفوظة في ألبوم العائلة أية صلة" (12)؛ الصور تكذب لأنّ نساء الصور العاريات في المجلات "يعبثن بي كما يعبث بي البحر الذي يتبدل لونه خلفهن" (27)؛ الصور تكذب لأنّها تصور المحبوب عبد الحليم حافظ على فراش الموت، ولأنها تصور الزعيم عبد الكريم قاسم في جلسته أمام فصيل الإعدام. الصور تكذب لذلك لابد من خيال. فالحياة التي تحكيها الرواية لا تصور بصورة فوتوغرافية، ولا تنقله حتى حكاية واحدة: لابد من حكايات، ولابد من خيال، فحينذاك، وحينذاك فقط، ربما يمكن استحضار ما حدث. فالخيال يساعد على فهم الواقع. فالراوي مثل مواطنيه الذين يستعيدون عبر الطرائف والقصص ما فروا منه في الواقع (36).

لابد إذن من إحضار أشخاص الصور إلى المكان الواحد نفسه، بعضهم مرّ بالمكان فعلاً، وربما لم يمرّ بعضهم الآخر: ولكنهم جميعاً كانوا هنا في ما تركوه من أثر على أفكار الناس، ومصائرهم، وتطلعاتهم، وخيالهم. والرواية ليست معنية بالواقعة التاريخية الصحيحة، لأنها أكثر من كونها تاريخاً، فلعل عبد الحليم حافظ لم يمرّ يوماً بمدينة المعقل، ولكن من ينكر أنه كان حاضراً فيها، يخلب ألباب أناس فيها: "بقي عبد الحليم يدور في سماء المعقل. يحلّق مثل طيف في أحلامنا" (30). وكذا الحال مع عبد الكريم قاسم، فهو بالتأكيد مرّ من هنا ليس لأنه كان هنا بل لأن عند بعضهم حكايات تحكي عن الزعيم: "عبد الكريم قاسم شخصية لا تغيب عن درس التاريخ. مهما كان الدرس" (44). والراوي يغير خط سير الخميني قائد الثورة الإيرانية ليمرّ لليلة واحدة بمدينة المعقل، فهو أيضاَ وأكثر من غيره بالطبع من ترك أثره على تاريخ المدينة. ولكل صورة جماعة. الناس هناك كانوا ينقسمون على ثلاث مجموعات "كل منها تمتد في اتجاه": "مجموعة جامع المعقل... بلحاهم القصيرة. ونظراتهم الزائغة" ومجموعة "فلم الظهيرة العربي"، و"مجموعة المطابخ. مطابخ دور عمال الميناء الصغيرة الخانقة" (50- 51). أما الراوي الطفل والمراهق اليافع ورَبعُه فلا ينتمون إلى أي من هذه المجموعات: "كنا أصحاب مناسبات أكثر منا أصحاب عادة. تأخذ اللحظات الشاردة بأيدينا فنتبعها راكضين" (51). وتشتتُ المجموعات ينزع عن المدينة وحدتها المفترضة، ويجعلها صيداً سهلاً للزوال.

ليس نسيج الصور وقصصها مما يمكن لنظرة عابرة التقاطه في قراءة واحدة، ولكن هذا لا يعني قسر القراءة الثانية على توليد هذا النسيج. ومع ذلك، ثمة نسيج (إن كان في الحياة والأدب نسيج متراص) يمكن التقاطه في تقاطع الحيوات وتوازيها وتلاقيها، ويتقطّع الزمان السردي أوصالاً ليتناسب مع تنقلات ذاكرة الراوي نفسها من جزء حدث إلى جزء حدث آخر، إلى لقاء عابر أو مقصود. وتزخر الرواية بمساحات بيض بين انتقالة وأخرى. وحتى شكل السطور يأخذ أحياناً شكل الكتابة الشعرية السائدة الآن رغم أنها ليست شعراً بالطبع، والراوي نفسه لم يرد لها أن تكون كذلك. فالسرد مبني نوعاً ما بطريقة تعتمد التكرار الجزئي، أو الإلماعي، تكرارُ حدث، وتكرارُ كلماتِ جملٍ سابقة في جمل لاحقة كما لو أنها تستهدف التعريف والشرح، والتحول من خيط في النسيج إلى خيط آخر، وقطع حكاية للشروع في حكاية أخرى، وتُبذر في حكاية بذور تنمو لاحقاً في حكاية أخرى، ومع ذلك هناك حكاية ستسرد بشكل متصل، ويستغرق سردها خُمس حجم الرواية. تشبه هذه الرواية حكاية تنطوي على حكايات أصغر، وأصغر متداخلة تداخل مويجات صغيرة في حركة مدّ واحد: ولكي لا تفلت الغابة من قبضتنا يمكن النظر إليها من أعلى والنزول للتجول بين أشجارها أيضاً.

فالمدينة مثل أنهار هيرقليطس متغيرة أبداً، وتياراتها غير متطابقة. ولكنها كانت مدينة حيّة تضج بأشياء وأسماء عديدة ومختلفة مقارنة بما آلت إليه من صورة جافة ويابسة كما لو أنها مهجورة يعبث بها الزوال.

تتصدر الرواية عتبتان، قُبستان: الأولى من سركون بولص: "وهكذا التقطت خيط الرحلة من التراب بأسناني/ واستغرق وصولي إلى بيتي ألف ليلة/ وليلة" (6)، والثانية من رواية موبي ديك لهرمان ملفل: "أجل. ثبْ وثبتك الأخيرة نحو الشمس يا موبي ديك! دنت ساعتك ودنا من يدي الرمحُ الذي سيرديك" (7): لأن الذاكرة الشخصية لا فكاك منها، فعسى أن تكون الكتابةُ رحلةً تبلغها، وعسى أن تكون مثل رمح آخاب لتصفيتها.